غزوة أُحُد: درسٌ خالدٌ في الطاعةِ والصبرِ والتضحية
M. bahri
اخر تحديث :
غزوة أُحُد: درسٌ خالدٌ في الطاعةِ والصبرِ والتضحية
: مقدمة
جذور الثأر وأصداء بدر
لم تكن نار الهزيمة في بدر قد انطفأت بعد في قلوب قادة قريش. كانت مرارة الخسارة وفقدان سادتهم وكبرائهم تؤجج رغبةً عارمة في الثأر والانتقام من المسلمين ورسولهم الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. بعد عامٍ واحد من بدر، حشدت قريش وحلفاؤها جيشاً جراراً، يفوق عدده ثلاثة آلاف مقاتل، مزودين بالعدة والعتاد، تقودهم شخصيات بارزة مثل أبي سفيان بن حرب، وخالد بن الوليد (قبل إسلامه)، وعكرمة بن أبي جهل، وكانت معهم نساؤهم يضربن بالدفوف ويحرضن الرجال على القتال والثبات، وعلى رأسهن هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، التي فقدت أباها وعمها وأخاها في بدر، وكانت متعطشة لدم حمزة بن عبد المطلب، قاتل أبيها. كان الهدف واضحاً: سحق قوة المسلمين الناشئة واستعادة هيبة قريش .المفقودة
الاستعداد للمواجهة: مشورةٌ وخطةٌ محكمة
وصلت أخبار زحف قريش إلى المدينة، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً مع أصحابه. كان رأي النبي وكبار الصحابة البقاء في المدينة المحصنة والتحصن بها، ليدافعوا عنها من الداخل، حيث يعرفون دروبها جيداً، ويستطيع النساء والأطفال المساعدة من فوق البيوت. لكن حماسة الشباب الذين لم يشهدوا بدراً، ورغبتهم في ملاقاة العدو ونيل الشهادة، غلبت على هذا الرأي، وألحوا على الخروج لملاقاة قريش خارج المدينة. نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند رغبة الأغلبية، فلبس لأمته (درعه)، وعقد لواء الحرب. خرج الجيش المسلم، الذي بلغ عدده نحو ألف مقاتل، ولكن في الطريق، انسحب رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ومعه قرابة ثلث الجيش (300 رجل)، بحجة أن النبي لم يأخذ برأيه في البقاء بالمدينة، تاركاً المسلمين في موقف حرج أمام عدو يفوقهم عدداً بأضعاف. مضى النبي صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه من المؤمنين الصادقين، وعددهم حوالي سبعمائة مقاتل، معتمداً على الله ومتوكلاً عليه.
ساحة المعركة وتنظيم الصفوف: جبل الرماة والنصيحة الغالية
عسكر المسلمون عند سفح جبل أُحد، جاعلين ظهورهم إلى الجبل لحماية مؤخرتهم. كانت خطة النبي صلى الله عليه وسلم غاية في الحكمة العسكرية. لاحظ وجود ثغرة يمكن للعدو الالتفاف من خلالها، وهي ممر ضيق فوق جبل صغير يُعرف لاحقاً بـ "جبل الرماة". فاختار خمسين من أمهر الرماة بقيادة عبد الله بن جبير الأنصاري، وأمرهم بالتمركز فوق هذا الجبل، وأصدر إليهم تعليمات صارمة وحاسمة: "انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا. إن كانت لنا أو علينا، فاثبتوا مكانكم لا تبرحوه. لا تبرحوا أماكنكم ولو رأيتمونا تخطفنا الطير". كانت هذه الوصية هي مفتاح النصر أو الهزيمة.
بداية المعركة واندفاع المسلمين: نصرٌ يلوح في الأفق
بدأت المعركة بالمبارزات الفردية التي تفوق فيها المسلمون، ثم التحم الجيشان. قاتل المسلمون قتالاً ضارياً بروح إيمانية عالية، وأظهروا شجاعة منقطعة النظير. برز أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كالعادة، يصول ويجول في صفوف المشركين، لا يقف أمامه شيء. وكذلك فعل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وأبو دجانة الأنصاري الذي أعطاه النبي سيفه ليوفي حقه. كان لثبات الرماة في موقعهم دور حاسم في صد هجمات فرسان قريش بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، الذين حاولوا مراراً الالتفاف على المسلمين ولكن سهام الرماة كانت لهم بالمرصاد. بدأت صفوف قريش بالاضطراب والتراجع، وبدا النصر وشيكاً للمسلمين، وبدأ المشركون بالفرار تاركين وراءهم الغنائم.
الخطأ الفادح وتحول الموازين: ثمن الطمع ومخالفة الأمر
عندما رأى معظم الرماة فوق الجبل هزيمة المشركين وبداية جمع المسلمين للغنائم في الأسفل، ظنوا أن المعركة قد حُسمت. تناسوا وصية نبيهم المشددة، وقال بعضهم لبعض: "الغنيمة الغنيمة! ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟". حاول قائدهم عبد الله بن جبير تذكيرهم بأمر الرسول وثنيَهم عن النزول، لكن قلة قليلة منهم أطاعت وبقيت معه، بينما نزل الأغلب الأعم للانضمام إلى جمع الغنائم. كانت هذه هي اللحظة التي غيرت مجرى المعركة تماماً. القائد المحنك خالد بن الوليد، الذي كان يراقب الموقف بذكاء، لم يفوت هذه الفرصة الذهبية. وجد الممر خالياً إلا من نفر قليل، فالتف بفرسانه بسرعة خاطفة حول الجبل، وفاجأ المسلمين من ظهورهم، وقتل من بقي من الرماة الصامدين وعلى رأسهم قائدهم عبد الله بن جبير.
الفوضى والاضطراب: استشهاد الأبطال والدفاع عن النبي
وقع المسلمون بين فكي كماشة، بين فرسان خالد من الخلف والمشركين الذين عادوا للقتال من الأمام بعد أن رأوا تحول الموازين. سادت الفوضى والارتباك الشديد في صفوف المسلمين، واختلط الحابل بالنابل، حتى إن بعض المسلمين قتلوا بعضهم خطأً في خضم الفوضى، مثلما حدث لـ "اليمان" والد حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. في هذا الجو المشحون، تمكن وحشي الحبشي، الذي كان مكلفاً من هند بنت عتبة بمهمة واحدة هي قتل حمزة مقابل حريته، من رصد أسد الله حمزة رضي الله عنه، ورماه بحربته فأصابه في مقتل، فسقط سيد الشهداء شهيداً. كما استشهد حامل لواء المسلمين مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكان شديد الشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قُتل، صرخ صارخ من المشركين: "قد قُتل محمد!". انتشرت هذه الإشاعة كالنار في الهشيم، فزادت من البلبلة وانهيار الروح المعنوية لدى بعض المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى سلاحه وجلس يائساً. لكن في المقابل، أثارت هذه الإشاعة عزيمة فئة من المؤمنين الصادقين الذين التفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم للدفاع عنه بأرواحهم. تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهجوم شرس، وأصيب بجروح بليغة، حيث كُسرت رباعيته (أحد أسنانه الأمامية)، وشُجَّ وجهه الشريف، ودخلت حلقتان من المغفر (خوذة الرأس) في وجنته. سال دمه الطاهر على الأرض.
ثبات أسطوري وتضحيات خالدة: صور من البذل والفداء
في أحلك اللحظات، برزت تضحيات وبطولات فردية خالدة. ثبت النبي صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم، وكان يقول: "إليّ عباد الله، أنا رسول الله". دافع عنه نفر قليل من أصحابه ببسالة منقطعة النظير. برز طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، الذي تلقى الضربات عن النبي بجسده حتى شُلّت يده، وقال عنه النبي: "أوجب طلحة" (أي وجبت له الجنة). وقاتل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قتالاً شديداً، وكان النبي يناوله النبال ويقول له: "ارمِ سعد، فداك أبي وأمي". كما برزت الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب المازنية (أم عمارة) رضي الله عنها، التي تركت سقاية الجرحى وأخذت سيفاً وترساً تقاتل بهما دفاعاً عن رسول الله حتى أصابتها جراح كثيرة. هذه الثلة المؤمنة شكلت درعاً بشرياً حول النبي، واستطاعوا إبعاده عن مركز الخطر والارتقاء به إلى شعبٍ في جبل أحد.
نهاية المعركة وانسحاب قريش: حوار على سفح الجبل
بعد القتال العنيف وسقوط عدد كبير من الشهداء المسلمين (قرابة السبعين شهيداً)، لم يتمكن المشركون من تحقيق هدفهم الرئيسي وهو القضاء التام على المسلمين أو قتل النبي صلى الله عليه وسلم. اكتفى أبو سفيان بما اعتبره نصراً وثأراً لبدر، وقرر عدم مواصلة القتال أو اقتحام المدينة، ربما خوفاً من مقاومة جديدة داخلها أو إرهاق جيشه. قبل أن يغادر، وقف على الجبل ونادى: "أفي القوم محمد؟" فلم يجيبوه. ثم نادى: "أفي القوم ابن أبي قحافة (أبو بكر)؟" فلم يجيبوه. ثم نادى: "أفي القوم ابن الخطاب (عمر)؟" فلم يجيبوه. فقال: "أما هؤلاء فقد كفيتموهم". فلم يتمالك عمر رضي الله عنه نفسه وقال: "يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم لأحياء كلهم، وقد أبقى الله لك ما يسوءك!". ثم أعلن أبو سفيان مفتخراً: "اعلُ هُبَل! يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال". فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يجيبه: "الله أعلى وأجلّ. لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". ثم انسحب جيش قريش عائداً إلى مكة.
ما بعد المعركة: دفن الشهداء ودروسٌ بليغة
كان المشهد بعد المعركة مؤلماً وحزيناً. تفقد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الشهداء، وكان الحزن عظيماً خاصة عند رؤية حمزة رضي الله عنه وقد مُثِّل به أبشع تمثيل. أمر النبي بدفن الشهداء في أماكنهم بدمائهم وثيابهم، وكان يجمع الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، ويقدم أكثرهم حفظاً للقرآن. لم تكن غزوة أحد هزيمة عسكرية تامة للمسلمين بقدر ما كانت اختباراً إيمانياً قاسياً ودرساً عملياً بليغاً. نزلت آيات كثيرة في سورة آل عمران تعلق على أحداث الغزوة، تبين حكمة الله فيما حدث، وتواسي المؤمنين، وتوضح أن النصر والهزيمة بيد الله، وأن الابتلاء سنة ماضية لتمحيص الصفوف وتمييز المؤمن الصادق من المنافق، وأن عاقبة مخالفة أمر الرسول وخيمة، وأن الطاعة والصبر والثبات هي مفاتيح النصر الحقيقي.
: خاتمة
أُحُد.. جرحٌ غائر ودرسٌ لا يُنسى
بقيت غزوة أحد جرحاً غائراً في تاريخ المسلمين، لكنها في الوقت نفسه كانت منحة ربانية في ثوب محنة. علّمت المسلمين أهمية الطاعة المطلقة للقائد، وخطورة حب الدنيا والتهافت على الغنائم، وعظمة التضحية والفداء في سبيل الله، وحقيقة الابتلاء ودوره في صقل الإيمان. لقد كانت أُحد محطة فارقة أظهرت معادن الرجال والنساء، ورسمت صوراً خالدة للبطولة والثبات، وأكدت أن طريق الدعوة محفوف بالتحديات، وأن النصر النهائي للمتقين الصابرين.