نَشْأَتُهُ وَحَيَاتُهُ فِي مَكَّةَ
مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ شَابًّا مَنَحَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَنَجَابَةً، فَتَأَلَّقَ بَيْنَ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ. فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ عَنْهُ: "مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لِمَّةً وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ." كَانَ يَرْتَدِي أَفْخَرَ الثِّيَابِ وَيَتَعَطَّرُ بِأَجْمَلِ الْعُطُورِ، حَتَّى عُرِفَ بِأَعْطَرِ وَأَجْمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ.
كَانَتْ أُمُّهُ، الْخَنَّاسُ بِنْتُ مَالِكٍ، مِنْ أَغْنَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَاهْتَمَّتْ بِهِ اهْتِمَامًا بَالِغًا، فَكَانَ مِثَالًا لِلْفَتَى الْمُدَلَّلِ، يَحْسُدُهُ النَّاسُ عَلَى مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ.
إِسْلَامُهُ وَتَحَوُّلُهُ مِنَ الدَّلَالِ إِلَى الْعَذَابِ
عِنْدَمَا بَلَغَ مُصْعَبَ خَبَرُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، دَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَهُ، لَكِنَّهُ كَتَمَ إِسْلَامَهُ خَوْفًا مِنْ غَضَبِ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ. كَانَ يَلْتَقِي بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ سِرًّا حَتَّى اكْتُشِفَ أَمْرُهُ أَحَدُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ أُمِّهِ، فَأَوْشَى بِهِ عِنْدَهَا.
عِنْدَهَا، تَحَوَّلَ الدَّلَالُ إِلَى اضْطِهَادٍ، فَحَبَسَتْهُ أُمُّهُ فِي غُرْفَةٍ ضَيِّقَ
ةٍ، وَلَمْ تَكُنْ تُعْطِيهِ سِوَى مَا يَكْفِيهِ لِلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ. ثُمَّ بَدَأَتْ تَضْرِبُهُ بِالسَّوْطِ، وَتُجْبِرُ الْخَدَمَ عَلَى تَعْذِيبِهِ، حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْ جَسَدِهِ. اسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ لِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، لَكِنَّهُ ظَلَّ ثَابِتًا عَلَى دِينِهِ.
مُحَاوَلَةُ أُمِّهِ إِذْلَالِهِ أَمَامَ النَّاسِ
بَعْدَ أَنْ فَقَدَتِ الْأَمَلَ فِي إِعَادَتِهِ إِلَى دِينِ قُرَيْشٍ، قَرَّرَتْ أُمُّهُ أَنْ تُهِينَهُ عَلَنًا، فَأَمَرَتْ خَدَمَهَا أَنْ يَجُرُّوهُ فِي الْأَسْوَاقِ كَالْبَهَائِمِ، وَيَضْرِبُوهُ أَمَامَ
الْجَمِيعِ، لِيَكُونَ عِبْرَةً لِمَنْ يُفَكِّرُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
هُرُوبُهُ وَهِجْرَتُهُ إِلَى الْحَبَشَةِ
اسْتَمَرَّ اضْطِهَادُ مُصْعَبٍ حَتَّى سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ لِلْهَرَبِ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، الَّذِي أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ. كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَوَائِلِ الْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ وَتَجَنَّبَ لِقَاءَ أُمِّهِ، لَكِنَّهُ اضْطُرَّ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ.
أَوَّلُ سَفِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ
كَتَبَ الْأَنْصَارُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمُ الْإِسْلَامَ، فَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ مُصْعَبًا لِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ، فَكَانَ أَوَّلَ سَفِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ. أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ مِثْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ الْآلَافُ.
شَهَادَتُهُ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ
فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حَامِلَ اللِّوَاءِ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَقُطِعَتْ هِيَ الْأُخْرَى، فَاحْتَضَنَ اللِّوَاءَ بِصَدْرِهِ حَتَّى طُعِنَ وَاسْتُشْهِدَ. بَكَى النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ وَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا. رَحِمَ اللَّهُ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.


